جاء في نداء الوطن:
وجهُ البطريرك مار بشارة بطرس الراعي لا يخفي بوادر القلق. عام 2000 كان “نداء بكركي” الذي طالب بانسحاب الجيش السوري بعد الانسحاب الإسرائيلي من الجنوب، ولكن بعد 24 عاماً تبدو الأمور وكأنها عادت إلى نقطة الصفر، وتحتاج إلى “نداء جديد” من أجل لبنان.
– هل يُطمئنكم وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، وما تأثيره على لبنان؟
نُبارك للرئيس دونالد ترامب ونأمل أن تنسحب الديمقراطية الأميركية على واقعنا اللبناني وننتخب رئيس جمهوريتنا. قد يكون ترامب أفضل من غيره، فهو يُنفّذ ما يقوله. نرى أن وصول ترامب إلى البيت الأبيض سينعكس إيجاباً على بلدنا، وما يعزّز هذا المؤشّر هو وجود لبنانيين ضمن فريق عمله، ونتمنى توظيف هذه العلاقات من أجل مصلحة لبنان فقط ولا شيء سوى لبنان. أما رئاسيّاً فلا ننسى أن الولايات المتحدة هي الدولة الأكثر نفوذاً في العالم، لذلك قد يُسرّع انتخاب ترامب إنهاء الشغور الرئاسي عندنا، لأنّه وعد بحلول للمنطقة والعالم.
– هناك من يتوقع احتداماً في المنطقة إذ يعرف عن الرئيس ترامب تشدده حيال إيران؟
نحن لا ندخل في سياسة المحاور بل نريد وطناً مستقلّاً، ذات سيادة، متحرّراً من أي جيوش غريبة أو دول خارجية تحكمه، لذلك إذا أعلن ترامب أنّه سيحرّر لبنان من النفوذ الإيراني، فنأمل خيراً لأننا شَبِعنا من الوصايات وآن الأوان لكي نعيش استقلالنا.
– هل من زيارة محتملة إلى واشنطن؟
سلوك الديمقراطيين مع الكنيسة لم يكن جيّداً، فالسفيرة الأميركية الحالية (ليزا جونسون) وعدتنا بالمساعدة في ما يتعلّق بالقرى الحدودية من أجل الحفاظ على ما تبقّى من أهلها الصامدين تحت القصف والنار، لكنها غابت ولم تعد. أمّا مع إدارة ترامب فنرجو أن تتحسن العلاقة من أجل خير لبنان وشعبه. من جهة ثانية لا أريد زيارة واشنطن لالتقاط الصور فقط، المهم أن تكون زيارة مثمرة نطرح فيها القضية اللبنانية، وإمكان مساعدتنا على تحقيق استقلالنا الفعلي وقيام دولة قوية في لبنان. وفي هذا السياق، لننتظر المساعي، خصوصاً من بعض اللبنانيين الفاعلين في إدارة الرئيس ترامب، ونبني على الشيء مقتضاه.
– في 10 كانون الثاني تنتهي ولاية قائد الجيش العماد جوزيف عون، فهل أنتم مع التمديد له؟
أولاً، أستغل هذه المناسبة لأوجه تحية إكبار وإجلال للجيش اللبناني ولأهالي الشهداء، فالجيش قيادة وضباطاً وعناصر يقومون بدورهم على أكمل وجه، وكل لبنان مع الجيش فهو خشبة الخلاص كقوة شرعية وحدها تحمي السيادة.
ثانياً، نحن مع انتخاب رئيس جمهورية اليوم قبل الغد، فعند انتخاب الرئيس تحلّ أزمة قيادة الجيش وحاكمية مصرف لبنان وكل المراكز المهمة الشاغرة. هل سيتركون البلاد حتّى كانون الثاني بلا رئيس؟ هذه جريمة في حقّ البلد، لا سيّما وأن الحرب لا ترحم. لكن إذا استمرّ المعطلون في تعطيلهم عندها لن نترك قيادة الجيش تلاقي مصير رئاسة الجمهورية، وعندها يتكرر سيناريو العام الماضي عندما مدّد مجلس النواب لقائد الجيش، مؤكّدين أننا نرفض العبث بالمؤسسة الكبرى التي تشكل حجر زاوية في بناء لبنان الجديد. فالفراغ قاتل واتخاذ قرار تعيين من حكومة تصريف أعمال في ظل غياب رئيس الجمهورية، هو تعدٍ على صلاحيات الرئيس ولن نقبل به، لذلك تبقى أولوياتنا انتخاب رئيس.
– في ظلّ الحديث عن سيناريو إسرائيلي بإنشاء منطقة عازلة عند الحدود الجنوبية، هل من ضمانات لمسيحيي القرى الحدودية في الحفاظ على وجودهم؟
ليس من ضمانات إذا استمرّت الحرب بين إسرائيل و”حزب الله”. ولا يمكن القبول بقيام منطقة عازلة ووجود مدنيّين مسيحيّين وغير مسيحيّين مقيمين فيها بسلام. في هذا الإطار تجاهد الكنيسة من أجل تأمين كلّ مقوّمات الصمود لأهلنا في القرى المسيحية الحدودية، الرازحين تحت نير الحروب والويلات. هم في قلبنا وصلواتنا وفي صلب اهتمامنا وسعينا مع سفراء الدول المعنية للضغط على إسرائيل لتجنّب استهداف المدنيين العزّل، لكن يبدو أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لا يريد وقف الحرب قبل تأمين عودة سكّان الشمال إلى مستوطناتهم. في المقابل يستمرّ “حزب الله” في خوض هذه المعركة المدمّرة، فيما الخاسر الأكبر حتى الآن هو لبنان واللبنانيون.
– في ضوء التطورات الراهنة هل “لبنان الكبير” في خطر اليوم؟
“لبنان الكبير” هو لبنان بكامل أراضيه المنصوص عليها في المادّة الأولى من الدستور، التي استردّها البطريرك الياس الحويّك بحسب خريطة 1860، بعدما سلختها السلطة العثمانيّة، لا زيادةً ولا نقصاناً. لست أرى خطراً اليوم عليه طالما يتمسّك جميع اللبنانيين بوحدتهم في إطار لبنان الكبير.
– لطالما طالبتم بالحياد الإيجابي، هل أصبح هذا المطلب مستحيلاً، أم يحظى اليوم بأمل أكبر ليتحقق؟
“الحياد الإيجابي” هو من صميم النظام السياسي في لبنان كوطن التعدديّة الثقافيّة والدينيّة، وأرض الحوار والانفتاح على جميع الدول. كلّ البيانات الوزاريّة من عهد الرئيس رياض الصلح حتى الرئيس حسّان دياب، كانت تتكلّم عن الحياد والتحييد والنأي بالنفس في السياسة الخارجيّة. ويبقى الحياد الخيار الوحيد للسلام في لبنان، ولحماية بلد الحوار والتلاقي وصاحب الدور السلامي في بيئته العربيّة، من دون أن يتخلّى عن تبنّي القضايا العربية المحقّة، وفي طليعتها القضية الفلسطينية.
– هل ترون نهاية قريبة للحرب؟
نصلّي إلى الله كي يتدخّل ويوقف الحرب، ويقيم السلام العادل والشامل، على أسس القرارات الدولية، وأبرزها قرار حلّ الدولتين.
– كيف تنظرون إلى مستقبل “حزب الله” بعد أن تتوقف هذه الحرب المدمرة؟ وما رسالتكم إليه؟
يجب أن يستخلص “حزب الله” العِبَر من هذه الحرب المدمّرة التي هجّرت فيها إسرائيل مليوناً ونصف مليون لبنانيّ، وقتلت الآلاف من الأبرياء وعشرات الألوف من الجرحى. وما زالت هذه الوتيرة تتواصل كلّ يوم وسط صمت عربي ودولي فيما يدفع لبنان تكراراً ثمن الصراع مع إسرائيل.
– هل تعتقدون أن الاستراتيجية الدفاعية التي كان يكثر الحديث عنها هي الحل لسلاح “حزب الله” أو المطلوب حصر السلاح لمرة نهائية بيد الجيش اللبناني؟
بالعودة إلى اتفاق الطائف، سيادة لبنان تقتضي حصر السلاح بيد الجيش اللبناني وبالتالي يجب تقوية الجيش ودعمه فهو حامي السيادة وسلامة الأراضي اللبنانية.
– هل تنفيذ القرار 1701 يمكن أن يحصل من دون تنفيذ مواز للقرارين 1559و 1680؟
الكلام اليوم محصور بتنفيذ القرار 1701.
– هناك من يقول إن “الشيعية السياسية” حولت لبنان دولة فاشلة. وفي عهد “الشيعية السياسية” خسر المواطنون ودائعهم، وتعطلت كل مؤسسات الدولة خصوصاً رئاسة الجمهورية والحكومة وغيرها من وظائف الفئة الأولى. ما هو موقفكم من هذا الطرح؟
لا تُحمَّل الشيعيّة السياسيّة وحدها كلّ هذه الأمور، بل الفساد العام والحكومات المتتالية، والفراغ الرئاسي الحالي وذاك الذي سبق عهد الرئيس ميشال عون، وسوء الإدارة وأسباب أخرى كثيرة.
– هل تتخوفون من أن تندرج مأساة النزوح من القرى الشيعية ضمن مخطط يهدف إلى تفجير الصيغة اللبنانية عبر تهجير الشيعة من قراهم لا سيما في الجنوب؟
لا يقبل أي لبناني ولا أي فئة بتهجير أي مكوّن شريك في الوطن. أتخوّف بالأحرى، إذا استمرّت الحرب مع المزيد من الهدم والنزوح، من مشاكل بين المواطنين. لذا أدعو للتروي ورصّ الصفوف والمحافظة على الوحدة الداخليّة وعلى العيش المشترك الذي يميّز لبنان. وفي كل حال نحن ما زلنا نعيش – كما يُفترض – في ظل دولة قانون ونظام تحفظه الأجهزة القضائية والأمنية التي عليها القيام بمسؤولياتها من أجل صون الحقوق والأمن الداخلي والتصدّي لأي فتنة. وإننا نشدد على التزام جميع القوى السياسية بهذه الثوابت.
– شهدت القمة الروحية في بكركي حضوراً جامعاً لممثلي الطوائف في لبنان، من بينهم شخصيات توجهت إليكم سابقاً بعبارات غير مألوفة بين رؤساء العائلات الروحية في لبنان، هل طويت الصفحة؟ وما ردكم على من اعتبر البيان الصادر عن القمة “تسووياً” من دون أن يتناول المسائل الحساسة؟
لقد طويت الصفحة منذ يوم التجنّي. في المقابل، تناول بيان القمّة أموراً كثيرة وحساسة للغاية. وتبقى لها قيمتها لأنّها أتت فوق الخلافات الصغيرة. ونحن نعمل حاليّاً مع الإخوة رؤساء الطوائف على متابعة توصيات القمة.
– هناك أصوات لشريحة كبيرة من المسيحيين لم تعُد تؤمن بالصيغة الحالية وتُطالب بالفدرالية كحلّ للمعضلة اللبنانية، وبعضهم يذهب إلى حدّ المطالبة بتصحيح ما يعتبرونه خطيئة “لبنان الكبير” كيف تردون على هذه الأصوات؟
نحن مع اللامركزيّة أوّلاً التي أقرّها اتفاق الطائف. ثمّ أي “صيغة حاليّة” يقصدون؟ هل صيغة العيش المشترك التي هي ميزة لبنان، والتي تدافع عنها الكنيسة؟ إنهم يخالفون الدستور ويشتكون على الصيغة. حافظوا على الدستور فتسلم الصيغة. “لبنان الكبير” كما أراده البطريرك الحويك قائم على عنصرين: الأوّل، استعادة المناطق الأصلية التي سلخت عنه، لكي تتوفّر له سبل العيش ووسائله. والثاني، مبدأ الانتماء إلى لبنان عبر المواطنة، لا عبر الانتماء الدينيّ، ما يعني عدم تعداد سكّانه على أسس طائفية، وفصل الدين عن الدولة، كما هي الحال رسميّاً في لبنان، وفق الدستور.
– زادت بشكل ملحوظ هجرة المسيحيين، هل يتخوّف البطريرك الراعي من “ذوبان ديموغرافي” مسيحي دراماتيكي في المدى المنظور؟
الهجرة كثيفة لدى المسيحيّين كما لدى المسلمين. المهمّ أن يحافظ الجميع على ممتلكاتهم في لبنان وعدم التسرّع في بيعها وإلّا سوف يندمون. وعليهم أن يسجّلوا وقوعات نفوسهم في الخارج، أي الولادات والزيجات والوفيات لدى البعثات القنصليّة والسفراء، للحفاظ على قيودهم الشخصية في سجلات النفوس ولوائح الشطب.
– هل لدى بكركي استراتيجية أو خطّة للحدّ من الهجرة؟
الكنيسة تحافظ على مؤسّساتها لكي توفّر فرص عمل لأكبر عدد ممكن. والأوقاف مفتوحة لكل من لديهم مشاريع زراعيّة وسكنيّة وسياحيّة واقتصاديّة. وهذه توفّر فرص عمل ووسائل عيش. لكنّ الحلّ الجذري والشامل هو لدى الدولة في مشاريعها الإنمائيّة والاقتصادية والتجاريّة والماليّة، ولا أحد يستطيع أن يحلّ محلّ الدولة.
– هناك الكثير من الأملاك للكنيسة والرهبانيات محتلة بحكم الأمر الواقع، ولا سيما في الجنوب والضاحية الجنوبية وقضاء جبيل، هل لدى الكنيسة خطة لاسترداد هذه الحقوق؟
الوسيلة الوحيدة لاستردادها هي القانون والقضاء وخاصة القضاء العقاري، وإبراز المستندات الثبوتية.
– أي لبنان سيكون بعد نهاية هذه الحرب؟
نأمل أن ينعم لبنان بالسيادة على كامل أراضيه بجيشه وقواه الأمنيّة، وبسلطته السياسيّة الواحدة، وبقراره السياسيّ الواحد الذي يعبّر عن إرادة جميع اللبنانيين المخلصين لوطنهم والموالين له وحده، بروح الدستور والميثاق الوطني، وأن ينعم بحياده الإيجابيّ الناشط. لأن حياده هو ضمانة لازدهاره ولعيش أبنائه بسلام وأمان، ولاستعادة دوره في العالمين العربي والدولي.