مراكز الإيواء تقلب مفهوم المدرسة رأساً على عقب

مراكز الإيواء تقلب مفهوم المدرسة رأساً على عقب
مراكز الإيواء تقلب مفهوم المدرسة رأساً على عقب

كتبت لوسي بارسخيان في “نداء الوطن”:

رسمت تداعيات العدوان الإسرائيلي على لبنان، وموجة النزوح التي رافقتها من مختلف المناطق، ملامح غير تقليدية للمدرسة الرسمية. فانهارت على أبواب مراكز الإيواء وتبدّلت وظائف القيمين عليها واختلفت استخدامات تجهيزاتها. جولةٌ على مدارس ولقاء مع مدراء وسؤال: مدير عَ مين؟

إنسوا المناهج التربوية… فلا كتاب تربية وطنية في يوميات المراكز، ولا حتى كتاب أدب. أما درس الجغرافيا فقد حدده العدوان الإسرائيلي بتصنيفه المناطق بين مناطق حمراء وأخرى خضراء، في مساحة لا تتجاوز الـ 10452 كيلومتراً مربعاً. فيما التطلع إلى أن ينجح جيل الحرب الجديدة حيث فشلت أجيال الحروب المتعاقبة على لبنان، فيوثق بقلم مشترك ما عايشه من عدوان ودمار ومجازر، علّه يتيح للأجيال اللاحقة، قراءة موحّدة لتاريخ بلدهم الحديث، ولو لمرة واحدة.

دعونا حتى من التنوع الذي هبط على الأحياء والمدن المفروزة في الأساس طائفياً، ومن المجاملات الاجتماعية والإنسانية التي أسقطت التنميطات في محيط مراكز الإيواء. ولنتحدث فقط في الشكل عن واجب المدرسة المنزلي الذي شُبّه في مراكز الإيواء بواجبات تنظيف الغرف وممراتها الفاصلة والحمامات. وعن نشاطات فرضتها الحاجة لقتل الوقت، ولو بــ “نفس نرجيلة” و”دق ورق”. عن طاولات التلاميذ التي صارت خزانات للثياب او مساند لفرشات الإسفنج، والحرامات. عن أرض الصف التي فرشت بالسجاد لأول مرة، وملعب “الفرصة” الذي تحول باركينغ لوسائل النقل. عن زحمة لم تحجب حبال الغسيل المنشورة على سور ملاعبها وشرفات غرفها. وحتى عن حمامات نقالة تسلّلت إلى الباحات الداخلية والخارجية، وصارت جميعها مجهزة بالدوش وسخانات المياه.

لننصرف انطلاقاً مما ذُكر إلى تحليل مفهوم الإدارة في المدارس، الذي قلبه النزوح اليها رأساً على عقب.

وُضع مدراء المدارس الرسمية التي فتحت كمراكز للإيواء في “بوز المدفع”، فحُمّلوا مسؤولية أكبر من طاقتهم. أمسك بعضهم بزمام الأمور “فقلّع” بما توفر. فيما واجه آخرون صدامات مع نزلاء مدارسهم. حتى أن سلاحاً رفع أحياناً بوجوههم، فاعتكف جزء منهم، بينما وجد آخرون سندهم في سلطة الأمن وأجهزته، وفي بعض الأحيان في مرجعية ضيوفهم الحزبية.

لم يكن تنمّراً علينا

تخبر مديرة في ثانوية رسمية في مدينة زحلة، أن وزير التربية عقد اجتماعاً عبر تطبيق zoom للوقوف على حاجات مدراء المدارس التي أوت النازحين وهواجسهم. “فشّ المدراء خلقهم” وأفرغوا كل ضغوطاتهم أمامه.

اطمأن بعض المدراء إثر الإجتماع لكونهم لا يتعرضون لتنمّر مقصود كما كانت انطباعاتهم، إنما هي الظروف الضاغطة التي عززت العناد لدى بعض النازحين، فلم تسهّل على المدير مهمته.

في المبدأ كلف وزير التربية في كل مدرسة لجنة مهمتها مساعدة المدير في مسؤوليته الاستثنائية. لكن عملياً سحبت الإدارة المركزية يدها من مترتبات تحويل المدرسة إلى مركز إيواء، وتُرك مدراؤها وحدهم في ظلّ موارد شحيحة توفرت بين أيديهم، فكانت المرحلة الأصعب هي في الأيام الأولى لتحوّل مدارسهم إلى مراكز إيواء، قبل أن يتلمّسوا طريقهم إلى تأمين الاحتياجات، التي توفرت بمعظمها عبر المنظمات والجمعيات الداعمة.

تخبط المدراء كثيراً في البدايات كما يروي بعضهم لــ “نداء الوطن”. هم مدركون تماماً أن الواجب الإنساني كما الوطني أساس المهمة التي هبطت عليهم من حيث لا يدرون… لكنهم لم يظنوا ولو للحظة أنهم سيُتركون وحدهم في مواجهة الأمور اللوجستية التي تتطلبها المهمة. فاختار كل منهم أسلوبه الذي يتناسب مع طبيعته الإنسانية، واضعاً نصب عينيه أن سلطته الإدارية غير ملزمة على نزلاء المراكز، فإما أن يكسب تعاونهم فيجتازوا معاً هذه المرحلة، أو يدخل معهم في مواجهة، قد لا تسلم منها حتى ممتلكات مدرسته وتجهيزاتها.

بحسب إحدى المديرات “لا يشغل النازحون في الأساس أملاكنا الخاصة، ولا هم مستأجرون لدينا لنضع شروطنا، وإذا كان قرار وزير التربية سمح بتحويل المدارس إلى مراكز إيواء، فإن بقاءهم فيها حق لهم”. ومن هنا تقول المديرة، “شكّل ذكاء المدير وقدرته على خلق حوار مع نزلاء مدرسته، أساساً لبناء الثقة، وبالتالي التعاون بين الطرفين”.

هل يعاقَب النازح بالصرف؟

المهمة شاقة بالطبع خصوصاً أن مبدأ المحاسبة مفقود في مراكز الإيواء. تقول إحدى المديرات “إذا أخطأ التلميذ قد نوجه إليه إنذاراً، أو نعاقبه بأداء واجب معين، أو نصرفه لأيام من المدرسة. لكن ماذا لو أخطأ نازح، هل نملك سلطة صرفه من المركز؟ وبالأساس هل تسمح لنا إنسانيتنا بذلك؟”.

نزح بعض نزلاء مراكز الإيواء من قراهم مع مشاكلهم وخلافاتهم العائلية والعشائرية، وقد ضاعفتها ظروف النزوح التي حشرتهم في غرف ضاقت بعشرات، حملوا هموماً متشابهة. ومن هنا تقول إحدى المديرات “فُرض علينا أن نسير بين خطوط اختلافاتهم وانفصالنا عنها، واضعين نصب أعيننا أننا نتعاطى مع أناس قلقين على بيوتهم وأرزاقهم، بعضهم أيضا فقد عمله، وهذا كاف لأن يكونوا بوضع نفسي صعب، ومهيأ لافتعال المشاكل، وبالتالي يواجهون صعوبة بالحوار. وعليه إذا لم يكونوا هم قادرين على استيعابنا، علمنا أنه يترتب علينا استيعابهم”.

مشاريع مشاكل بخلفيات متنوّعة

لا يجوز انطلاقا مما سبق مقارنة مهمات إدارة المدرسة بمهمات الإدارة في مراكز الإيواء. فإذا كان “مَسك السجل” ضروري في الحالتين، ففي مركز الإيواء هو لتأمين الاحتياجات اليومية لنزلاء المركز، خصوصاً على صعيد وجبات الطعام والمياه بالإضافة إلى الحرامات والفرش وأدوات النظافة وغيرها. أما في سائر المهمات فتقول مديرة إحدى المدارس “وجدنا أنفسنا مسؤولين عن أعمال الصيانة وحلّ الأمور اللوجستية، وتحولنا في بعض الأحيان الى “سنكري” و”كهربجي” و”نجار”، خصوصاً مع تكرار حوادث كمثل فيضان مجاري الحمامات، أو انقطاع المياه، وحصول إحتكاكات كهربائية. فمدارس لبنان الرسمية متهالكة عموماً، وهي بالأساس غير مجهزة هندسياً لاستيعاب أعداد الـ”بالغين والأطفال” الذين تدفقوا إليها”.

ما فاقم من صعوبة المهمة، أن بعض النزوح جاء أكبر من قدرة استيعاب المراكز. فتروي إحدى المديرات “أنه في الأيام الأولى للنزوح عندما كانت أعداد المراكز محدودة، طلبت منا عائلات كثيرة أن نأويها ولو موقتا في ملاعب المدارس. لكن الإقامة الموقتة لهؤلاء تحولت إلى دائمة، واضطررنا في بعض الأحيان لحشر أكثر من عائلة مع متفرعاتها مع عائلة أخرى ومتفرعاتها. فبتنا اليوم أمام مشروع مشكل متكرر بين العائلات. علماً أن همّ المدير تجنيب المركز الأضرار التي قد تنجم عن أي عراك، تداركاً أيضاً لتداعياته على إنشاءات مدرسته وعلى سائر المقيمين في المركز”.

تجددت مشاريع المشاكل في أشكال مختلفة حتى الآن. الحمامات وتولي مهمة إبقائها نظيفة شكّلت سبباً رئيسيا لصدامات بين نزلاء المراكز أنفسهم وبينهم وبين القيمين على إدارتها. ولم تحلّ إلا مع تكرر فيضان مياهها الآسنة، لتهدد صحة أولادهم أولاً. فرضخ معظمهم لشروط استخدامها وبرامج التوالي على نظافتها. واسترجع المدراء جزءاً من مكانة سلطتهم بخطط وضعوها، ووزعت مسؤوليات النظافة على الغرف ونزلائها. ولما كان لا قيمة لأيّ خطة من دون توفر متطلباتها التنفيذية، رحب مدراء المراكز بتدخلات الهيئات المانحة وجمعياتها العاملة على الأرض، لإعادة تأهيل بعض الحمامات، أو زيادة أعدادها عبر حمامات نقالة، أو حتى تأمين مستلزمات استخداماتها الطارئة، وخصوصاً على صعيد تأمين المياه الساخنة للاستحمام.

استقواء وذكورية

حتى العراك بين الأولاد لم يمر بشكل عرضي في بعض الأحيان، بل تطور إلى صدام بين ذويهم، تمترست على أثره العائلات في غرفها. فحلت الأمور أحياناً بالحوار وجرت الاستعانة في أحيان أخرى أيضاً بالأجهزة الأمنية.

اكتشف مدراء أيضاً صعوبة التواصل مع مجتمعات لا تؤمن بسلطة رسمية فوق إرادتها، والمدير في مركز الإيواء يمثل هذه السلطة. واجه البعض أيضاً ذكورية حادة في تقبل سلطة السيدات منهن، بينما معظم مدراء المدارس، أقله في الأطراف التي أوت النازحين هن من السيدات.

عجز مدراء كثيرون أمام العناد الذي أظهره بعض النازحين في تحقيق مبتغاهم. إلا أن الأمر لم يتفاقم، سوى مع رفع السلاح الأميري بوجه مدراء وتهديدهم وعائلاتهم. شهدت إحدى مدارس زحلة حادثة مشابهة، فاحتشد جزء من النزلاء دعماً للمدير وجزء بمواجهته، إلا أن مجرد وجود السلاح دون استخدامه سمح لحامليه بأن يتعاطوا بفوقية مع سائر نزلاء المركز، ولم تحل المشكلة الا مع الاستعانة بالأجهزة الأمنية والشكوى إلى المرجعيات الحزبية.

تكرار المشاكل في مراكز محددة ارتبط في معظم الأحيان بخلفية النزلاء، حيث رأت إحدى المديرات أنها إما أن تسهل المهمة أو تصعبها. ولكن أيضاً بطباع المدير وطول أناته في تجنبها. لم يكن ذلك سهلاً على مدراء فقدوا السيطرة على ما كانوا يعتبرونه مملكتهم، وهذا ما جعل البعض ينهارون عند أبسط ارتكابات ضيوفهم، كأن تقوم إحداهن مثلاً بصب سطل مسح الأرض على شتلة توليها المديرة عناية خاصة، أو أن يرفض بعضهم ملازمة الغرف عند تنظيف الممرات الفاصلة بينها.

ضغط إضافي مع انطلاق العام الدراسي

فرض انطلاق العام الدراسي ضغوطات نفسية إضافية على المدراء، ووضعهم في حالة انفصام للشخصية كما تقول إحدى المديرات.

فأي شخصية غلبت يا ترى؟

تقول مديرة إحدى المدارس لا يمكننا أن نهمل مراكز الايواء، لأن ذلك سيفاقم من مشاكلها، ويخلق نزاعات بين أفرادها على أبسط الأمور. فتصوروا مثلاً أن تصل وجبة الفطور ولا يحصل عليها الجميع بالتساوي. فكيف سيحل النزلاء هذه المشكلة في ما بينهم.

من هنا تقول المديرة إن القرار ببقاء المدير مشرفاً على مركز الإيواء سليم، إلا أن الخلل هو في عدم توفير الموارد التي تسهل أداء المهمة بشكلٍ سليم. صحيح أن الهيئات والمنظمات المانحة سدّت بعض العجز، وخصوصاً من ناحية قدرتها على تجاوز البيروقراطية في تأمين تجهيزات أساسية، إلا أن حضور الدولة بقي مطلوباً في حل الكثير من المسائل قد تخلف تداعيات مستقبلية على صناديق المدارس، وخصوصاً من ناحية تأمين المازوت للتدفئة الذي حُلّ بسلفة أقرتها الحكومة، والكهرباء وفاتورتها التي تضاعفت بشكل كبير، بانتظار أن تفي الدولة بوعدها في تكفل كلفتها أيضاً. علماً أن صناديق المدارس غير قابلة لتحمل أي من هذه الأعباء وهي في معظمها فارغة، وباستثناء المدارس التي كانت تؤمّن دوامات مسائية لطلاب النازحين السوريين في العام الماضي، لا تملك أي مدرسة كما يؤكد مدراؤها، ما يغطي حتى نفقات انطلاق عامها الجاري.

جزءٌ آخر من المدراء رأى في ازدواجية المهمات الملقاة على عاتقهم، بدعة، أياً كانت الأتعاب التي وعدت الوزارة بتسديدها. تشكو مديرة أنها لم تتمكن حتى الآن من فرش سجادة منزلها، بينما هي تلاحق تأمين السجاد والدفء لكافة نزلاء مدرستها. وتعتبر أن “مهمة مركز الإيواء وظيفة بدوام كامل لكوننا نضطر أحيانا لحلّ مشاكل مستجدة ولو في منتصف الليل”.

في المقابل، يقرّ المدراء “أن الأمور باتت أسهل مع تكرار التجارب، وأنهم اكتسبوا المعرفة، أقله في الوصول إلى مفاتيح الحلول المتوفرة عبر المنظمات والهيئات الداعمة”، لكن ذلك لم يتحقق كما يقولون “إلا بعد أن خسرنا جزءاً كبيراً من طاقتنا… فصمدنا، وتأقلمنا، لكن إلى متى؟”.

اشترك فى النشرة البريدية لتحصل على اهم الاخبار بمجرد نشرها

تابعنا على مواقع التواصل الاجتماعى

السابق ماذا يخبّئ بري لجلسة التمديد لقائد الجيش؟
التالى بعد التحذير الاسرائيلي.. سلسلة غارات تستهدف النبطية