كتب طوني عطية في “نداء الوطن”:
خلف النهر الكبير شمالاً وعلى ضفّتي الليطاني جنوباً، ترتسم معالم المرحلة السياسية المقبلة في بعديها الإقليمي والمحلّي. صحيح أن “الأكشن” السوري خطف عدسات الإعلام العربية والغربية، غير أن الحدث اللبناني يطلّ اليوم حكوميّاً وأمنيّاً من “ثكنة بنوا بركات” في صور، على وقع مواصلة الجيش الإسرائيلي أعماله الحربية المتنوّعة “على البارد”، بين تفجير منازل وقذائف مدفعية، وقطع طرقات وغارات مسيّرة، طالت أقضية بنت جبيل، مرجعيون، حاصبيا، النبطية وقرى صور، وصولاً إلى المعابر الحدودية بين لبنان وسوريا. إذ سُجّل أكثر من 150 خرقاً منذ بدء سريان اتفاق وقف النار في السابع والعشرين من الشهر الفائت.
بحسب المفهوم الإسرائيلي، لا تعتبر الدولة العبرية أنّ ما تقوم به هو “خروقات”، بل جزءاً من تطبيق الاتفاق الموقّع مع لبنان سلطةً و”حزب الله” ضمناً. ويندرج وفق زعم إسرائيل في سياق إزالة التهديدات التي تمثّلها “المقاومة الإسلامية في لبنان”. وتستند تلّ أبيب إلى ورقة الضمانات الأميركية، التي تُعدّ صمام الأمان الأساسي للهدنة الستّينيّة، مستغلّة في الوقت ذاته، موافقة الحكومة اللبنانية، على بقاء القوات الإسرائيلية داخل لبنان طيلة المدّة المتفق عليها، ما يعطيها الحقّ في استمرار نشاطها العسكري. وهذا ما قرأته إدارة نتنياهو أيضاً، بأنّ إحدى علامات ضعف “الحزب”، وفقدانه عامل المبادرة أو الخطوة الأولى، (على عكس ما فعله في معركة الإسناد في الثامن من تشرين الأوّل 2023 عندما أطلق الرصاصة الأولى)، حصر ردّة فعله على “جملة” الاستهدافات الإسرائيلية، بقصف مواقع للجيش الإسرائيلي في تلال كفرشوبا، باعتبارها منطقة لبنانية محتلّة وغير مشمولة بالقرار الدولي الـ 1701. كما تريد إسرائيل توجيه رسالة إلى “الحزب” وخلفه الدولة اللبنانية، مفادها أن مفاعيل الاتفاق وتطبيقاته، تسري تحت التهديد الدائم، لا سيّما بعد تحذير وزير الدفاع الإسرائيلي يسرائيل كاتس من “تبعات” إمكانية انهيار اتفاق وقف إطلاق النار، مهدّداً “بأننا سنقوم بتنفيذ الاتفاق بأقصى قدر من الاستجابة وعدم التسامح مطلقاً، وإذا كنا قد ميّزنا حتى الآن بين لبنان و”حزب الله”، فلن يكون الأمر كذلك بعد ذلك”، وفق تعبيره. كما يريد نتنياهو خلق انطباع داخل المجتمع الإسرائيلي بأنّه حقّق رَدعاً ودِرعاً ميدانيّاً يتخطّى الـ 1701.
في هذا الإطار، تشير مصادر مطّلعة، إلى أنّ إسرائيل وبـ “شطارة” المبعوث الأميركي آموس هوكستين، واستناداً إلى ضعف الموقف اللبناني نتيجة الضربات الكبيرة التي تلقّاها “الحزب”، تمكّنت من “تشريع” خروقاتها عبر اتفاق وقف إطلاق النار. ولفتت إلى أنّ الجيش الإسرائيلي يعتمد أسلوب تكثيف أنشطته العسكرية، قُبيل تنفيذ أي اتفاق أو هدنة، مثلما حصل في الليلة الأخيرة من وقف إطلاق النار (27 تشرين الثاني)، بشنّ سلسلة غارات على الضاحية الجنوبية لبيروت، مما يعني أنها ستواصل عملياتها وخروقاتها إلى حين بدء “لجنة الجنرالات” تنفيذ مهامها، مطلع الأسبوع المقبل، حيث ستشكّل مختبراً عينيّاً لاتفاقية الهدنة ومدى التزام الأطراف المعنية بتطبيق القرار الدولي، إذ لا يكفي إعلان الحكومة اللبنانية “إيمانها بالجيش اللبناني”، بل تأقلم “حزب الله” مع المتغيّرات المحليّة والإقليمية، لا سيّما بعد الانهيار الدراماتيكي لمحور “الممانعة” في العديد من مناطق النظام السّوري.
إزاء هذه المعطيات، تتجه الأنظار اليوم إلى التئام حكومة تصريف الأعمال في “ثكنة بنوا بركات” في صور، بحضور قائد الجيش العماد جوزيف عون، وفي نافذة تاريخية، ارتبط اسم الملازم الأول الشهيد بنوا بركات بعصر الدولة القوية التي فرضت هيبتها على كامل التراب من شمالها وشرقها إلى جنوبها. فبركات هو ابن بلدة عين إبل، استشهد في 12/13/ 1958 أثناء قيامه بمهمة حفظ الأمن في السلسلة الشرقية (منطقة عرسال)، إثر وقوع آليته المصفّحة بكمين نصبت له ولأفراد الدورية من قبل عصابات السلاح والتهريب في المنطقة، وبعد ثلاث ساعات من العملية، أمهل الجيش اللبناني المجرمين ساعة واحدة لتسليم أنفسهم وأسلحتهم، وهذا ما حصل.