جاء في نداء الوطن:
استفاق السوريّون صباح أمس على “سوريا جديدة” بعد احتفالهم الأحد بسقوط نظام الأسد، إلّا أن عقوداً من “الحكم الأسود” لا يُمكن تجاوز آثارها بسهولة أو محوها بسرعة، خصوصاً في ما يتعلّق بملف المعتقلين السياسيين في السجون السورية. وهنا يطفو على السطح تلقائيّاً اسم سجن صيدنايا السيّئ السمعة والمعروف بـ “المسلخ البشري”، حيث عُذّب مئات الآلاف وقتل عشرات الآلاف، وربّما أكثر، منذ افتتاحه المشؤوم عام 1987 وحتّى فجر الثامن من الحالي، ما دفع متابعين لملف المعتقلين إلى وصفه بـ “الوجه الحقيقي القبيح” للنظام البائد.
مع انهيار النظام وفرار رئيسه “الجزار” بشار الأسد إلى الخارج، اقتحم مقاتلو الفصائل المسلّحة السجون لتحرير القابعين في “أقبية الظلام البعثية”، فتحرّر الآلاف من سجن صيدنايا الواقع على مسافة نحو 30 كيلومتراً من دمشق، ومن بقية السجون المنتشرة في أنحاء البلاد حيث كان يُسيطر النظام، إلّا أن ما أثار حالاً من الترقب والبلبلة في صفوف أهالي الكثير من المعتقلين والمفقودين، تضارب المعلومات حول احتمال وجود أبواب وأقبية سرّية وأقفال إلكترونية داخل “المبنى الأحمر” المخصّص للمعتقلين السياسيين، ما نقل جهود تحرير المساجين إلى مرحلة أكثر تعقيداً.
يتميّز سجن صيدنايا الذي يُعتبر الداخل إليه مفقوداً والخارج منه مولوداً، بتصميم هندسي فريد من نوعه، بحيث يتكوّن من 3 مبان كبيرة تلتقي في نقطة يُطلق عليها “المسدس”. ويتكوّن كلّ مبنى من 3 طوابق، لكلّ منها جناحان، ويحتوي الجناح الواحد على 20 مهجعاً جماعيّاً متراصة في صف واحد بعيدة عن النوافذ، لكن تشترك كلّ أربعة منها في نقطة تهوية واحدة فقط. وداخل زنزانات الحبس الانفرادي، تغطّي المياه والطين الأرضيات الخرسانية التي عُثر في كلّ منها على وعاء معدني واحد للطعام يتناثر البراز من حوله.
دخلت منظمة “الخوذ البيضاء” على الخطّ وأرسلت فرقها المتخصّصة التي كسرت أبواباً حديدية وهدمت جدراناً وأحدثت فجوات في الأرض بحثاً عن أماكن سرّية مفترضة، بيد أن كلّ جهودها، التي وصلت إلى حدّ تخصيصها مكافأة مالية لكلّ من يُدلي بمعلومات مباشرة مفيدة، باءت بالفشل ولم تعثر على معتقلين “مخفيين” حتى كتابة هذه السطور، في وقت أشار فيه عدد من المعتقلين السابقين في صيدنايا إلى عدم وجود غرف سرّية داخل السجن غير تلك المعروفة عند آلاف المساجين الذين تحرّروا سابقاً وخلال اليومَين الأخيرَين، من دون أن يحسموا ذلك بشكل قاطع.
وإذ اعتبر هؤلاء المعتقلون المحرّرون أن مساعي التفتيش الرامية للعثور على معتقلين يجب أن تستمرّ حتى التأكد من خلو أي سجن من أي معتقل سياسي، تحدّثوا عن أن آمال أهالي وأصدقاء آلاف المعتقلين الذين لم يُعرف مصيرهم بالعثور عليهم أحياء، تُغذي فكرة وجود أماكن سرّية تحت الأرض قد يكونون متواجدين فيها، لكنهم لفتوا إلى أن السجّانين كانوا يُنفذون عمليّات إعدام دورية لعشرات المعتقلين، فضلاً عن وفاة آخرين تحت التعذيب، علماً أن التقديرات تفيد بأن 30 ألف شخص دخلوا سجن صيدنايا منذ 2011، بينما أفرج عن ستة آلاف منهم فقط.
وأوضحوا أن هذه الممارسات الشنيعة المُتعارف عليها، تُفسّر وجود لائحة تضمّ أسماء الآلاف من المفقودين الذين قد تكون جثثهم تعرّضت للحرق في “محرقة” أُقيمت لهذا الغرض بالذات. وعثر المنقذون ومن دخلوا “مجمّع الموت” على أدوات تعذيب في غرف داخل السجن، إضافة إلى حبال كانت تخصّص لتنفيذ عمليات الإعدام شنقاً، فيما يُطالب خبراء بعدم العبث بأي أدلّة قد تستخدم لاحقاً لمحاسبة المسؤولين عن عمليات التعذيب والإعدامات المُمنهجة داخل سجون الأسد ومحاكمتهم.
وأصبح سجن صيدنايا مقصداً لأهالي المعتقلين الذين يسعون إلى معرفة مصير أبنائهم وأحبابهم، في وقت يتداول فيه سوريون صور معتقلين أُطلق سراحهم من أجل التعرّف إليهم من قِبل عائلاتهم. وظهرت مقاطع فيديو لبعض السجناء حليقي الرؤوس وفي حالة هزال حادة جعلتهم بالكاد قادرين على ذكر أسمائهم أو أسماء بلداتهم. ولقي أكثر من 100 ألف شخص حتفهم داخل سجون النظام السوري منذ انطلاق الثورة عام 2011، بحسب تقديرات “المرصد السوري” عام 2022. وسجّلت “منظمة العفو الدولية” آلاف عمليات الإعدام وندّدت بـ “سياسة إبادة جماعية حقيقية” في صيدنايا.
في الغضون، بحث قائد “هيئة تحرير الشام” أحمد الشرع المعروف بـ “أبو محمد الجولاني” مع رئيس حكومة النظام الساقط محمد الجلالي “تنسيق انتقال السلطة”، بحضور شخصَين آخرَين أحدهما رئيس “حكومة الإنقاذ” التي تتولّى إدارة مناطق سيطرة “الهيئة” في إدلب، محمد البشير، الذي تحدّثت تقارير عن تكليفه بقيادة “سلطة انتقالية”. بالتزامن، فتحت قطر اتصالات مباشرة مع “الهيئة” أمس وتعتزم التحدّث مع البشير اليوم، وفق وكالة “رويترز”، بينما تدرس دول عدّة رفع الحظر عن “الهيئة” المُصنفة على لوائح الإرهاب. كما فتحت طهران قناة مباشرة للتواصل مع فصائل في القيادة الجديدة، في محاولة “لمنع مسار عدائي” بين البلدَين، بحسب المصدر نفسه. وكان مثيراً للسخرية إعلان حزب البعث دعمه لـ “مرحلة انتقالية”، ما اعتبره معارضون محاولة من الحزب الذي أوغل بدماء السوريين على مدى حكمه الشنيع للتبرّؤ من حكم “آل الأسد” وإيجاد مكان له في اللعبة السياسية الداخلية مستقبلاً.
في الأثناء، تمعن إسرائيل في توجيه ضربات إلى مواقع عسكرية سورية استراتيجية لإضعاف قدراتها كدولة، إذ كشفت “رويترز” أن الدولة العبرية قصفت قواعد جوّية رئيسية ودمّرت بنية تحتية وعشرات المروحيات والمقاتلات، بينما أكدت تل أبيب مهاجمة “أنظمة أسلحة استراتيجية، مثل الأسلحة الكيماوية المتبقية أو الصواريخ البعيدة المدى”. كما كشف “المرصد السوري” استهداف إسرائيل مواقع عسكرية مختلفة في مناطق عدة، من بينها مركز البحوث العلمية في برزة بدمشق، بأكثر من 100 غارة أمس فقط.